وائل قنديل يكتب : عوامل التعرية.. تسلم الأيادي
ما بين إنسانيتك، وما سواها، خيط رفيع للغاية، يمرّ عبر موقفك من الواقعة التي راجت على نطاق واسع، عن تعرية سيدةٍ مسنة، في السبعين من عمرها كما قيل، في صعيد مصر، انتقاما لجريمة مخلةٍ بالشرف، اتهم فيها ابنها.
تحت أي ظرفٍ، ومهما كانت الظروف والملابسات التي ساقت قطيع الانتقام الهمجي إلى ارتكاب هذا الجرم الشنيع، على النحو الذي سمعناه من وسائل الإعلام، فإن التبرير، وكذلك التهوين، هنا، خطيئة أكبر من جريمة تعرية المسنّة، أو الجريمة الأم التي تولد عنها ما تلاها من جرائم.
الأفظع من الألسنة الحداد التي تحاول التغطية على هذا الحضيض الإنساني والأخلاقي، بالتفتيش عن حججٍ في جريمة سبقت، هو ما ورد على لسان سيادة اللواء العسكري المحافظ، بخصوص مأساة “أبو قرقاص” عن أن ما جرى كان حادثاً صغيراً، لا يستحق كل هذه الضجة الإعلامية.
دعك من ديانة السيدة المجني عليها، بحسب الرواية المنتشرة، فكونها مصرية مسيحية، لا يجعلنا بصدد كارثة طائفية، بقدر ما نحن غارقون في مستنقعٍ لا أخلاقي عفن، يجعل المسؤول الأول في محافظة المنيا لا يستشعر عاراً إنسانياً، وهو يقرّ بأن مجموعةً من الكائنات المحسوبة على البشر انتقمت من متهمٍ في أمه ذات السبعين عاماً، بتمزيق ثيابها وتعريتها.
وسواء كانت قصة السير بها عارية صحيحةً، أو أنها من قبيل المبالغات، وفقاً لرواية الباحث في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، إسحاق إبراهيم، وفيها أنه “لم يتم تنظيم مسيرة في الشوارع وهي عارية، كما أشيع، والسيدة أدلت بأقوالها في النيابة، وغالباً نفت واقعة الاعتداء عليها، لأسبابٍ لها علاقة بالخوف من الجرس (حسب العادات في الريف)، فإن ما جرى يكفي للإحساس بالخجل.
لا يعرف أحد المقياس الذي يحدّد به سيادة الجنرال المحافظ حجم الموضوع، وما إذا كان كبيراً أم صغيراً، حتى يتحدث بكل هذه الاستهانة عن فاجعة اعتداءٍ جمعي، على امرأةٍ لا حول لها ولا قوة، وعقاب جماعي تمثل في إحراق منازل، لكن ما نعرفه جيداً أن السيدة ليست وحدها التي تعرّت، عنوةً، في تلك القرية الصعيدية الصغيرة، وإنما هي مصر كلها التي جرّدوها من كل ما يسترها، ثم قالوا إن الموضوع بسيط وصغير، وما نعرفه أيضاً أن هذا النظام اعتمد سياسة العقاب الجماعي، والاستباحة الكاملة لأسر معارضيه وعائلاتهم، وحرض مواطنيه الشرفاء عليها، فأحرقوا بيوتاً ومؤسساتٍ لكل من لا ترضى عنهم السلطة.
لقد ابتذلوا مفهوم الشرف، حين جعلوا وصف “الشريف” حكراً على من يطرب لجرائمهم، ويصفق لها، ويشارك فيها، بالسواعد، وإن لم يستطع، فعن طريق هز الأكتاف والأرداف، على إيقاعات “تسلم الأيادي”، الأمر الذي أفضى إلى ابتذال مفهوم الدفاع عن الشرف، بالتبعية، ليتحول إلى هذه الحالة الهمجية البهيمية التي تناقلتها الأخبار من صعيد مصر.
كان إدخال التعرية، في قاموس الشرف المزيّف، على يد هذه السلطة، حين أطلقت جنودها “الأشدّاء” على تلك المتظاهرة في ميدان التحرير، إبّان أحداث مجلس الوزراء في ديسمبر/ كانون الأول 2011، لكي يعرّوها ويدهسوها بأحذيتهم الثقيلة، ثم تأتي حلقاتٌ أخرى من العري، في حماية السلطة، وبتشجيعٍ منها، حين يطلقون مذيعاً تلفزيونياً، بدرجة مخبر، للنهش في أعراض الثوار والسياسيين، على الهواء مباشرةً، بعد أن منحوه كل ما لديهم من تسجيلاتٍ وصور عن الحياة الخاصة، لكل من يعارضهم.
هو سياق من العري الأخلاقي العام، بدأ بتشجيع الوضاعة الإنسانية واستحسانها، من خلال ترقية السفلة الذين تحدثوا عن “نكاح الجهاد” في اعتصام رابعة العدوية، ومكافأة “الشرفاء” الذين انتهكوا كل الحرمات الإنسانية، حتى حرمة الموت، وامتد إلى الرقص احتفالاً بنزع السيادة عن قطعتين من الشرف الوطني، تيران وصنافير، وفي تلك السيدة المسنّة التي جاؤوا بها من بين أنياب الفقر والحاجة لترقص، مثل طائرٍ ذبيح، وسط فريقٍ من رافعي الأصابع، بإشاراتٍ بذيئة، في وجه متظاهرين يدافعون عن تراب الوطن المباع في سوق النخاسة السياسية.
كرّست الدولة التي ولدت، سفاحاً، في صيف 2013 معظم طاقتها لتصنيع وإنتاج “المواطن الوغد”، ورعته واهتمت به، وفتحت له الباب واسعاً لاستعمال كل مخزون القبح الإنساني المزروع داخله، في محطاتٍ عديدة، حتى تألق في التعبير عن إتلاف الفطرة الإنسانية، في واقعة السيدة الصعيدية العجوز.