سيف الدين عبدالفتاح يكتب : قصة طائرتين
مع هذا الانقلاب تحدثُ الكوارثُ بشكلٍ يومي تُنبئ تارةً عن قصورٍ أو فشلٍ وتكشف تارةً أخرى عن إهمالٍ أو غفلةٍ وتشير تارةً ثالثة إلى تعمّدِ وإصرار، مؤشرات الفشل تحيط بمنظومة الانقلاب في كل مكان ومن كل طريق لتعبّر عن حقيقةٍ أساسيةٍ أنّ هذا الغصب الانقلابي لسلطةٍ شرعيةٍ لم يكن في حقيقة أمره إلا فسادا وعملية إفساد كبيرة، ووفقاً للسنّة الماضية “إنّ الله لا يصلح عمل المفسدين”، يكون ذلك جزاء وفاقاً عما ارتُكِبَ بحق هذا الوطن وجملة هذا الشعب.
هكذا نرى في سياق تسيير المجلس العسكري الفائت لمصر بعد الحادي عشر من فبراير 2011، تسييراً سميته في حينه الإدارة بالكوارث، ذلك أن الكوارث تتالت وتتابعت في كل يوم حتى أننا قد كتبنا في حينه أن كتاب الكوارث يحمل كل يوم عناوين مختلفة فهذا كتاب للحرائق، وهذا كتاب للسطو على البنوك أو المصارف، وهذا فصل يتعلق باستهداف الكنائس، وفصل آخر يتعلق باستهداف نزاعات ما بين عائلتين هنا أو هناك، وهذه كوارث مسرح البالون ومجزرة ماسبيرو ومجزرة محمد محمود بأشكالها المختلفة ومجلس الوزراء، وغير ذلك من كوارث بعضها يشير إلى الفشل أو التقصير وبعضها يشير إلى العمد والتدبير.
بعد الانقلاب عاد الأمر إلى ما كانت عليه الأمور ولكن بشكل أكثر فشلاً وأكثر عمداً لتعبر تلك الحالة الانقلابية عن محاولة هذه المنظومة أن تفعل أي شيء يؤدي إلى شرعنة غصبها والتغطية على إجرامها، وبدت هذه الكوارث وكأنها تؤدي وظيفة لهذه المنظومة لتكتمل صورة طغيانها وإجرامها وتعبّر في حقيقة الأمر عن عِقابٍ لهذا الانقلاب على ما اقترفته يداه من جرائم فاضحة ومن أعمال فادحة قاموا بها إن غفلة أو تقصيرا وإن عمدا وتدبيرا، إذ عبّروا بذلك عن استهانة بالأرواح والنفوس، فأدى الفشل والإهمال إلى قتل المواطن والإنسان وكذلك أدى العسف والإجرام أيضاً إلى ترويع وقتل الإنسان.
أياً كانت تلك التفسيرات أو التبريرات لحادث الطائرة التي سقطت أو اُسقطت على مشارف الحدود المصرية، وأياً كان الأمر الذي يتعلق بمقولات الإهمال أو العمل الإرهابي أو الحادث الداخلي في الطائرة فإنه في النهاية يشير إلى حالة من التقصير والفشل بالتعامل مع الأزمة، يبدو ذلك جلياً في رواياتٍ متضاربةٍ ومتناقضةٍ يطلقها المسؤولون فهذا يثبت، وذاك ينفي وهذه رواية ثالثة وتلك سردية رابعة، وهذه رؤية من مسؤول أو من خبير، كل منهم يقول أمراً نراه أنه ليس بالحقيقة، ولكنها أقوالاً مرسلة وتحقيقات مهملة وخطابات مفتعلة لا تعبر بأي حال من الأحوال عن حقيقة الأمور ولكنها تشير في كل الأحوال إلى تقصير وإهمال واضح ومنظور.
لم تكن تلك هي الحادثة الوحيدة التي تتضارب فيها الروايات ويحترف فيها المسؤولون استهانة بالحقيقة أو محاولة التغطية عليها أو ممارسة طرق كل مسالك تزويرها، إنهم يجتهدون في كل شيء إلا أن يقولوا الحقيقة يحاولون من كل طريق أن يعفوا أنفسهم من أي مسؤولية وكأنهم ملائكة لا يخطئون وهم في ارتكاب الخطأ أو الخطيئة محترفون، يعبّرون في ذلك عن أكبر اهانة لعقول الناس واستهانة بحياتهم، بل إنهم لا يعبّرون من خلال أجهزة إعلامهم إلا عن حالة من التعتيم أو التغييم وفي أفضل الأحوال فإنهم ينقلون عن وكالاتِ أنباءٍ أجنبية أكثر من أن يؤدوا رواية حقيقية مصرية، هذه قصة طائرة يحاولون أن يطمسوا الكارثة ويهوّنوا منها لا يهتمون بإنسانية الإنسان ولم يحملوا مرة واحدة صدقاً في الحكاية أو أمانة في الرواية، ومن المؤسف حقاً أن يكون ذلك ديدن كل مسؤول وكل أجهزة الإعلام التي لم تعد تحسن إلا أن تكون أجهزة افتراء وكذب وإفك وعبث بالحقيقة ولعب.
وهذا هو المسؤول الأول عن الطيران المدني في مصر يخرج قائلاً في بعض تصريحاته مطالباً المصريين بعدم القلق فإن الأمور ستنجلي ولكن ربما بعد وقت طويل قد يصل إلى السنتين، ما هذا الهراء الذي يقدمه ذلك المسؤول الغافل غير مكترث بآلام الناس وقلقهم على أهليهم وتأجيل الإعلان عن الكارثة وأسبابها وفق إطار يدشّن هذه القاعدة أن من أمن العقوبة أساء الأدب، وأن من أمن الحساب ولم يطله العقاب عمل أي شيء وبلا حساب، وهو أيضاً ذات المسؤول يتحدث عن فرضيتين يرجح فيها العمل الإرهابي ويقول إن ذلك سيكون شيئاً جميلاً، فأيُّ جمالٍ في موت الناس والاستهانة بأرواحهم وأيُّ جمالٍ في سقوط طائرة، إنهم جميعاً لا يحسنون إلا التفلّت من المسؤولية أو محاولة أن لا تقع عليهم مسؤولية، وغاية الأمر في تهربهم أن لا يدفعوا تعويضات أو يحيلوا الأخطاء على غيرهم في محاولة التحلل من التزاماتهم، ولكنهم في غمرة ذلك ينسون الإنسان الذي ضاع والروح التي أزهقت والأهالي الملتاعين على ذويهم، إنهم في حقيقة الأمر لا يقيمون للإنسانية والإنسان وزنا.
لم لا وهم يقومون آناء الليل والنهار بالقتل المتعمد والترويع والتفزيع لكل نفس على أرض الوطن، يعتقلون ويطاردون ويختطفون ويحرقون ويخنقون ويقتلون بدم بارد من غير أي تأنيب لضمير، بل إنهم يعبثون بحياة الإنسان بممارسات حقيرة ودنيئة في الزنازين والسجون؟
وفي إطار ذلك العمد والإصرار على القتل والتقتيل وفي سياسات تقوم على سوء التدبير، هذه قصة طائرة ثانية، الطائرة هذه المرة ليست مدنية، إنها طائرة حربية من طائرات سلاح الطيران المصري الذي يطلق قذائفه وصواريخه من غير تدقيق أو تحقيق فيوّجه هذه القذائف إلى بيت عادي بل إلى “عِشةٍ” تسكنها أسرة سيناوية، أم وخمسة أطفال، تقريباً في ذات الوقت الذي سقطت فيها الطائرة الأولى أو يكاد، ولكن للأسف الشديد أن أحداً لم يهتم، قُتِلت الأم وخمسة أطفال لم يكن ذلك إلا تأشيراً على ما يفعله العسكر في سيناء وأنه تحت دعوة محاربة الإرهاب صار أهل سيناء جميعاً مستهدفون يُقّتلون بكل سلاح من البر أو من الجو لا يهم من المقتول، لقد قلنا إن منظومة الانقلاب لم يعد يهمها المواطن الإنسان فقط يهمها أن تمارس القتل في كل مكان لتُعبّر عن حقيقةٍ غايةٍ في الخطورة على أرض الوطن أنه ليس هناك أي قيمة لأي إنسان.